أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ,سُورَةَ " الْكَافِرُونَ "؟


أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ,سُورَةَ " الْكَافِرُونَ "؟

بسم الله الرحمن الرحيم 
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على محمد وآله وصحبه :
وبعد 
فإن أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله ، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي عقيدة الولاء والبراء التي تضمنتها سورة الكافرون .
فضل هذه السورة
1- عن جابر بن عبد الله ؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ في ركعتي الطواف بسورتي الإخلاص ( قل يا أيها الكافرون ) ( وقل هو الله أحد )( 1 ) .
2- عن أبي هريرة ؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ في ركعتي الفجر : ( قل يا أيها الكافرون) و ( قل هو الله أحد ) ( 2 ) .
3- عن ابن عمر ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في الركعتين قبل الفجر والركعتين بعد المغرب بضعا وعشرين مرة أو بضع عشرة مرة قل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد ( 3 ). رواه أحمد .
4- عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( ... و قل يا أيها الكافرون تعدل ربع القرآن ) ( 4 ).
5- عن فروة بن نوفل ، عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لنوفل : (اقرأ قل يا أيها الكافرون ثم نم على خاتمتها فإنها براءة من الشرك ) ( 5 ).
6- وقال ابن عباس : ليس في القرآن أشد غيظا لإبليس منها، لأنها توحيد وبراءة من الشرك . ذكره القرطبي .
7- قال الأصمعي : كان يقال لـ ( قل يا أيها الكافرون ) و ( قل هو الله أحد ) المقشقشتان ، أي أنهما تبرئان من النفاق .
ابن السكيت : يقال للقرح إذا يبس تقشقش جلده .
8- هي إحدى سورتي الإخلاص : فالتوحيد إما توحيد المعرفة والإثبات وإما توحيد الطلب والقصد . والأول قد تضمنته ( سورة قل هو الله أحد ) والثاني ( قل يا أيها الكافرون ) فلا يعبد إلا الله وحده لا شريك له في عبادته .
نهتبل هذه الفرصة لنلقي الضوء على بعض معاني سورة الكافرون .

قال الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)


قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ
1- قال الله تعالى : ( قل ) وفيه : إبطال زعم من يزعم أن القرآن من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنه لو كان من عند نفسه لما قال ( قل ) ! ويدل أيضا على أنه من جهة عليا آمرة قاهرة ! وذلك لأنه أتى بصيغة الأمر الجازم إذًا فالمتكلم آمر قادر مرهوب الجانب ، ويستحيل أن يكون من كلام البشر لأنه لم يعهد للآن في كلام البشر ذكر ( قل ) في صلب الرسالة ، إذًا فهو من كلام رب العالمين بلا ريب ، وقد أمر نبيه بألا يغير حرفًا فما فوقه من القرآن الكريم ، ففي البخاري عن أُبَيٍّ قال سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : ( قيل لي فقلت : قل ) .
إذن فالقرآن محفوظ بحفظ الله له إلى يوم القيامة ، وكل هذه المعاني تتجلى للقارئ المؤمن كلما قرأ هذه الكلمة المعجزة المكونة من حرفين اثنين ( قل ) في سبعين ومائتي آية ، ومنها :
قوله تعالى : ( قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) ( البقرة : 93 )
وقوله تعالى : ( قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) ( البقرة : 94 )
وقوله : ( قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ ) ( البقرة : 97 ) .
وقوله : ( قُلْ ءَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ ) ( البقرة : 140 ) .
وقوله : ( قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ) ( البقرة : 189 ) .
وقوله : ( قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ) ( البقرة : 219 ) .
وقوله : ( قل إصلاح لهم خير ) ( البقرة : 220 ) .
وقوله : ( قل هو أذى ) ( البقرة : 222 ) .
وقوله : ( قل اللهم مالك الملك ) ( آل عمران : 26 ) .
وقوله : ( قل إن تخفوا ما في صدوركم ) ( آل عمران : 29 ) .
وقوله : ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) ( آل عمران : 31 ) .
وقوله : ( قل أطيعوا الله والرسول ) ( آل عمران : 32 ) .
وقوله : ( قل الله يفتيكم في الكلالة ) ( النساء : 176 ) .
وقوله : (قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا ) ( الجن : 1 ) .
وقوله : ( قل يا أيها الكافرون ) ( الكافرون : 1 ) .
2- ( يا أيها ) : للمبالغة في طلب إقبالهم ، حتى لا يفوتهم شيء مما يلقى إليهم .
3- ( الكافرون ) : ( الألف واللام ) للجنس الدال على العموم ، لا للعهد الدال على مُعَيَّنِين .
4- ( الكافرون ): وإنما جاء اسمًا ليدل على من كان الكفر وصفًا ثابتًا له ، لازمًا لا يفارقه . فكأنه يقول : كما أن الكفر لازم لكم ثابتٌ دائمٌ لا تنتقلون عنه فمجانبتكم والبراءة منكم ثابتة لي دائمًا أبدًا ، ولهذا أتى فيها بالنفي الدال على الاستمرار في مقابلة الكفر الدائم المستمر ، ولم يجئ إلا في هذا الموضع ! ( قل يا أيها الكافرون ) .
5- ( الكافرون ) : خطاب لكل كافر ومشرك ، وليست لقوم بأعيانهم ( خلافًا للبعض ) وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بها في المدينة بعد موت هؤلاء المعينين ، ويأمر بها ويقول : ( إنها براءة من الشرك ) ( 6 )، فالمقصود منها أن تكون براءة من كل شرك اعتقادي وعملي .
6- ( الكافرون ) : النداء بذلك فيه إذلال للمشركين ، حيث ناداهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذا في ناديهم ، وقام على رءوسهم بهذا الخطاب المزري وألزمهم ما يأنف منه كل ذي لب وحجا ، ومع ذلك لم يخف بل صدع بها وألقى بها في وجوههم ! وهذا دليل على أنه محروس من ربه عز وجل ، يحميه من كيدهم .
7- ( الكافرون ) : ولم يقل ( يا أيها الذين كفروا ) لإرادة اللزوم المستفاد من الاسم وأما الفعل فيفيد التجدد والحدوث ، وهذا فيه من التشنيع ما فيه !
8- و ( الكافرون ) أشد اختصارًا من ( يا أيها الذين كفروا ) مما يفيد إرادة المسارعة إلى تبكيتهم ، والمسارعة إلى ذكر ما يقال لهم لشدة الاعتناء به ، فهو أنكى لهم وأبلغ في قطع رجائهم ، ولهذا لم يقل أيضًا : ( يا أيها المشركون ) .

لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ
9- ( لا أعبد ما تعبدون ) : لما كان الكفر وصفًا لازمًا لهم ارتضوه واعتنقوه واختاروه وداموا عليه وجبت البراءة منهم كذلك على الدوام والاستمرار ، فجيء بحرف النفي الدال على الطول والاستمرار في النفي ( لا ) .
قال ابن القيم : ( النفي بـ ( لا ) أبلغ منه بـ ( لن ) لأنه أدل على دوام النفي وطوله من ( لن ) وأنها للطول والمد الذي في لفظها طال النفي بها واشتد فالإتيان بـ ( لا ) هنا متعين !
10- ( أعبد ) : كل مؤمن مطالب بالبراءة من الشرك وأهله والمعبودات الباطلة وهو يجدد هذه البراءة مرة بعد مرة ، رغم أنها ثابتة دائمة في قلبه فهي منفية بالاسم أيضا ( ولا أنا عابد ) .
فنفى الفعل ( أعبد ) كما نفى الاسم ( عابد ) ، ونفي الفعل يدل على نفي العارض المتجدد الحادث من هذه العبادة الباطلة ، ونفي الاسم يدل على نفي قبولها وإمكانها أصلا أي ( فلا يصلح لي ولا يسوغ مني ) بعد أن قال ( لا يقع مني ) .
فكأنه قال : عبادة غير الله لا تكون فعلًا لي ، ولا وصفًا لي بحال ، والمقصود البراءة من معبوديهم بكل وجه وفي كل وقت .
11- وإنما جاء الفعل مضارعًا ولم يأت ماضيًا ( ما عبدت ) لأن هذه السورة يطالب بها كل مؤمن ( ولو كان كافرًا قبل لحظة من قراءتها ) ، فهو مطالب بنفي هذه العبادة الباطلة من الآن فصاعدًا ، حالًا ومستقبلًا ، لا ماضيًا ، إذ من الممكن أن يكون كافرًا فأسلم فإذا قرأها بالماضي قيل له كذبت ، لقد كنت في الماضي تعبد ما نعبد ! وسبحان من ( أنزله بعلمه ) ! .
12- ( ما تعبدون ) : ولم يقل ( من تعبدون ) ! فقيل : لأن معبوداتهم أصناما لا تعقل ، فجيء بـ ( ما ) الدالة على غير العاقل، وهذا قول ضعيف جدًا .
فالخطاب لجميع الكفار ، وفيهم من يعبد الملائكة ، والمسيح ، وعزيرًا ، والصالحين ، وهؤلاء عقلاء ، بل هم يعبدون الله ذاته ويقرون بوجوده ، ولكنهم يشركون به في ألوهيته ، فكيف يقال أنّ ( ما ) لغير العاقل ؟ !
والجواب الصحيح : أن ( ما ) تستخدم على حالتين :
الأولى : لغير العاقل كما هو المشهور فيها .
الثانية : لصفات مَنْ يعلم .
كما قال تعالى : ( ولا أنتم عابدون ما أعبد ) !
وقال أيضًا : ( ما تعبدون من بعدي ) ؟ ( البقرة : 133 )
وقال أيضًا : ( والسماء وما بناها ) ! ( الشمس : 5 )
فالمعنى : ( لا أعبد ما تعبدون ) براءة من معبوداتهم الباطلة جميعا على أن ( ما ) موصولة لصفات العالِم .
وبراءة من عبادتهم الباطلة كلها على أن ( ما ) مصدرية .
13- فإن قيل كيف يتبرأ من معبوداتهم وهم يعبدون الله أحيانا ، كما قال تعالى ( فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ) ( العنكبوت : 65 ) .
قلنا : هذا هو السر في التعبير بـ ( ما ) دون ( مَنْ ) ، لأن ( مَنْ ) تدل على الذات والعَيْن ، وأما ( ما ) فتدل على صفات من يعلم ، فإنهم وإن عبدوه فعبادتهم شك وشرك ، وعبادتي يقين وتوحيد .
بل هم في الحقيقة ما عبدوا الله أصلا ! بل عبدوا شيئا سموه الله ، له صفات الشركة والصاحبة وليس له صفات الكمال ، فهم لم يعبدوا الله الواحد الأحد الصمد ، وإنما عبدوه وعبدوا غيره ، فعبدوا المجموع وأنا لا أعبد هذا المجموع ، وإنما أعبد الله وحده لا شريك له .
14- ولهذا فإنه لم يستثن ( لا أعبد ما تعبدون إلا رب العالمين ). كما قال الخليل عليه السلام : ( إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني ) فالخليل عليه السلام في ( واقعة العين ) هذه تبرأ من أعيان وذوات ما يعبدون ، ولما كانوا يعبدون ذات الله ضمن معبوديهم استثنى رب العالمين . ( والله أعلم ) .
أما هذا الموضع فهي براءة عامة من ( العبادة ) أو ( المعبودين ) الموصوفين بهذه الصفات فلا يحتاج إلى استثناء !
15- ( لا أعبد ما تعبدون ) : فبدأ ببراءته من معبوديهم وعباداتهم الباطلة قبل براءتهم من عبادة معبودنا الحق ( ولا أنتم عابدون ما أعبد ) . لأن مقصود السورة الأعظم هو إعلان البراء منهم ومن عباداتهم ، فهي إحدى سورتي الإخلاص ، وقد اشتملت على أحد نوعي التوحيد وهو توحيد القصد والإرادة ، وهو ألا يعبد إلا إياه فلا يشرك به في عبادته سواه ، بل يكون وحده هو المعبود سبحانه وتعالى لا شريك له .

وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ
16- ( ولا أنتم عابدون ما أعبد ) : نفى عنهم عبادة ما يعبدون بلفظ الاسم ( عابدون ) دون الفعل ( تعبدون ) لأنهم وإن عبدوه أحيانا ( وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين ) فإنهم لا يستمرون ولا يفردونه بالعبادة ، فالعبادة وإن وقعت منهم في بعض الأوقات فليسوا عابديه على سبيل اللزوم المستفاد من نفي الاسم ، وأيضا فإنه قال ( ما ) ولم يقل ( مَنْ ) لأنه نفى عنهم عبادة الله الموصوف بصفات الكمال، لا عبادة ذاته سبحانه فإنهم كانوا يعبدونه !
فنفى عنهم ( العبادة الدائمة ) بقوله ( عابدون ) للمعبود الموصوف بصفات الكمال بقوله ( ما أعبد ) .
ولم ينف عنهم العبادة أحيانا لمعبودهم الذي لم يتصف بصفات الكمال ، وهي كَلَا عبادة ، فلا يتصف بأنه عابد لله إلا من انقطع إليه وتبتل ، ولم يشرك به أحدا .
وأتى بالمضارع ( ما أعبد ) يعنى الآن ، ولم يقل ( ولا أنتم عابدون ما عبدت ) بالماضي لِما تقدم أن كل مؤمن مأمور بهذه السورة ومنهم من كان معبودُه غير الله تعالى فلو أتى بالماضي لقالوا : بل نحن نعبد ما كنت تعبد لَمَّا كنت مشركًا!
17- ومن هذا الملحظ أيضا أُتِىَ بالفعل دون الاسم ( ولا أنتم عابدون ما أعبد) دون ( ولا أنتم عابدون ما أنا عابد ) لأن الاسم يدل على اللزوم والدوام وهو لا يعلم الغيب والمستقبل فربما مَنْ كان مؤمنًا في وقت مَا يَكْفُرُ بعد ذلك - والعياذ بالله - فيكون ما عبده في المستقبل هو عين ما عبدوه هم ! أما حين يخاطب المؤمن غيره بها فإنه حين يقولها ما يعبد إلا الله فهو يقول للكفار ( ولا أنتم عابدون ما أعبده الآن ) .
فاقتصر على نفي عبادتهم لما يعبده في الحاضر دون الماضي والمستقبل أما الماضي فليس بلازم وأما المستقبل فليس بمضمون والله أعلم .

وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ
18- ( ولا أنا عابد ما عبدتم ) :
وهأنذا أؤكد براءتي من معبوداتكم الباطلة ، وعباداتكم المنحرفة ، أيها الكفار .
فبعد أن تبرأ منهم المؤمن بالفعل المضارع ( لا أعبد ) فإنه الآن يلزمه أن يتبرأ منهم بالاسم أيضا ( ولا أنا عابد ) ، وعلى الرغم من أن الفعل المضارع يدل على الحال والاستقبال ، وكذلك اسم الفاعل غير المضاف الذي عَمِل عَمَل فعله فإنه أيضا يدل على الحال والاستقبال ، إلا أن النفي بالاسم بعد النفي بالفعل فيه زيادة معنى كما تقول : ما أفعل هذا ، وما أنا بفاعله !
فمجرد نفي الفعل لا يستلزم نفي إمكان الوقوع وقبول المحل ، والنفي بالاسم يقتضي نفي إمكان الوقوع وقبول المحل كما قال شيخ الإسلام ، فكأنه قال : لا تقع مني عبادة لمعبودكم في المستقبل بل لا يسوغ لي ذلك أصلا ولا أتصف به مطلقا فالأول نفي الفعل والثاني نفي قبوله وإمكانه .
19- قلت : وهذا على سبيل الإنشاء لا الخبر ، وإلا فقد سبق أن الإنسان لا يضمن المستقبل ولا يعلمه ، هذا عند الإخبار ، أما في الإنشاء فيلزم كل مؤمن أن يجزم ويعزم على عدم عبادة غير الله في المستقبل قطعا ، كما قال الخليل : ( ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا ) .
وبذلك يكون النفي من جهتهم بالمضارع ( ما تعبدون ) ثم بالماضي ( ما عبدتم ) .
فالأول يتناول ما يعبدونه في الحاضر والمستقبل ، والثاني يتناول ما عبدوه في الماضي ، وذلك لأن الكافرين يعبدون آلهة شتى ، وليس معبودهم في كل وقت هو معبودهم في الوقت الآخر ، كما قال تعالى : ( وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ ) ( الحج : 31 ) .
فتضمنت هاتان الآيتان البراءة من كل ما يعبده المشركون في كل زمان ماض وحاضر ومستقبل !
20- فإن قيل : أليس من المحتمل أن يؤمنوا ، فكيف نتبرأ من معبودهم في المستقبل وقد يؤمنون بالله في المستقبل ، فكيف نتبرأ منه ؟
فالجواب : أنهم لو آمنوا لكانوا مؤمنين ولم يكونوا مشركين ، وبالتالي فالآية لا تشملهم حينئذ ، فهي تخاطب الكفار حيثما كانوا ، فإذا أسلموا فالآية عندئذ لا تشملهم. والله أعلم .

وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ
21- ( ولا أنتم عابدون ما أعبد ) : تأكيد لبراءتهم من معبوده الحق ، وعبادته القائمة على اليقين والتوحيد ، وقطع لأطماعهم في الالتقاء في منتصف الطريق ، أو الحلول الوسط ، بل هي مفاصلة تامة ، وبراءة كاملة ، ومباعدة شديدة ، لا التقاء معها أبدا بوجه من الوجوه .

لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ
22- ( لكم دينكم ولي دين ) : هل أفاد معنى زائدا على ما تقدم ؟
الجواب :
الحكمة - والله أعلم – أن النفي الأول أفاد البراءة ، وأنه لا يتصور منه ولا ينبغي له أن يعبد معبودهم ، وهم أيضا لا يكونون عابدين لمعبوده ، وأفاد آخر السورة إثبات ما تضمنه النفي من جهتهم من الشرك والكفر الذي هو حظهم وقسمهم ونصيبهم ، فجرى ذلك مجرى من اقتسم هو وغيره أرضا فقال له :
لا تدخل في حدي ولا أدخل في حدك ، لك أرضك ولي أرضي .
23- في أول السورة قدم ما يختص به ( لا أعبد ) وفي آخرها قدم ما يختص بهم ( لكم دينكم ) فما السر في ذلك ؟
الجواب :
أما تقديم ما يختص به في أول السورة ، فلأن مقصودها الأعظم براءته - صلى الله عليه وسلم - من دينهم ومعبودهم ، وكذلك كل موحد تبعًا له ، هذا هو لُبُّهَا ومغزاها ،وجاء ذكر براءتهم من دينه ومعبوده بالمقصد الثاني مكملا لبراءته ومحققا لها، فلما كان المقصود براءته من دينهم ، بدأ به في أول السورة وختمها أيضا به ( لا أعبد ما تعبدون ...... ولي دين ) .
24- وأما تقديم ما يختص بهم في آخرها ( لكم دينكم ) فإن السورة لما اقتضت البراءة واقتسام ديني التوحيد والشرك بينه وبينهم ، ورضي كلٌّ بقسمه وكان المحق هو صاحب القسمة وقد أبرز النصيبين وميَّز القسمين ، وعلم أنهم راضون بقسمهم الدون الذي لا أردأ منه ولا أدون ، وأنه – هو - قد استولى على القسم الأشرف ، والحظ الأعظم ، بمنزلة من اقتسم هو وغيره سُمًّا وشفاءً ، فرضي مُقَاسِمُهُ بالسم فإنه يقول له : لا تشاركني في قسمي ولا أشاركك في قسمك ، لك قسمك ولي قسمي ، فتقديم ذكر قسمه هنا أحسن وأبلغ .
كأنه يقول : هذا هو قسمك الذي آثرته بالتقديم ، وزعمت أنه أشرف القسمين وأحقهما بالتقديم ، فكان في تقديم ذكر قسمهم من التهكم بهم والنداء على سوء اختيارهم ، وقبح ما رضوه لأنفسهم من الحسن والبيان ما لا يوجد في ذكر تقديم قسم نفسه . ( ابن القيم – رحمه الله - )

حسن الختام
25- وقوله تعالى : ( لكم دينكم ولي دين ) هل هو إقرار ؟ فيكون منسوخًا أو مُخَصَّصًا ، أو ليس بإقرار ولا نسخَ فيه ولا تخصيص ؟
قال ابن القيم :
(( هذه مسألة شريفة من أهم المسائل المذكورة ، وقد غلط فيها خلائق وظنوها منسوخة بآية السيف ، لاعتقادهم أن هذه الآية اقتضت التقرير لهم على دينهم ، وظن آخرون أنها مخصوصة بمن يقرون على دينهم وهم أهل الكتاب ، وكلا القولين غلط محض ، فلا نسخ في السورة ولا تخصيص ، بل هي محكمة ، وعمومها نص محفوظ ، وهي من السور التي يستحيل دخول النسخ في مضمونها ، فإن أحكام التوحيد التي اتفقت عليه دعوة الرسل يستحيل دخول النسخ فيه ، ومنشأ الغلط : ظنهم أن الآية اقتضت إقرارهم على دينهم ثم رأوا أن هذا الإقرار زال بالسيف فقالوا هو منسوخ ..!
ومعاذ الله أن تكون الآية تقريرا لهم على دينهم الباطل أبدًا ، فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أول الأمر وأشده عليه ، وعلى أصحابه أشد في الإنكار عليهم ، وعيب دينهم ، وتقبيحه ، والنهي عنه ، والتهديد ، والوعيد لهم كل وقت ، وفي كل ناد ، وقد سألوه أن يكف عن ذكر آلهتهم وعيب دينهم ويتركونه وشأنه ، فأبى إلا مُضِيًّا على الإنكار عليهم وعيب دينهم ، فكيف يقال : إن الآية اقتضت تقريره لهم ؟ !
معاذ الله من هذا الزعم الباطل .
إنما الآية اقتضت براءته المحضة كما تقدم ، وأن ما أنتم عليه من الدين لا نوافقكم عليه أبدا ، فإنه دين باطل فهو مختص بكم لا نشارككم فيه ولا أنتم تشاركوننا في الحق ، وهذا غاية البراءة والتنصل من موافقتهم في دينهم ، فأين الإقرار حتى يدَّعوا النسخ أو التخصيص ؟
أفترى إذا جوهدوا بالسيف كما جوهدوا بالحجة لا يصح أن يقال ( لكم دينكم ولي دين ) ، بل هذه آية قائمة محكمة ثابتة بين المؤمنين والكافرين إلى أن يطهر الله منهم عباده وبلاده ( لنا أعمالنا ولكم أعمالكم ) ، ( أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون ) وكذلك حكم هذه البراءة بين أتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل سنته وبين أهل البدع المخالفين لما جاء به ، الداعين إلى غير سنته ، إذا قال لهم خلفاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - وورثته لكم دينكم ولنا ديننا لا يقتضي هذا إقرارهم على بدعتهم بل يقولون لهم هذا براءة منهم ومن بدعتهم وهم مع هذا منتصبون للرد عليهم ولجهادهم بحسب الإمكان )) أ . هـ

( وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم )
( والحمد لله رب العالمين )

........................
كتبه الشيخ / أبو طارق محمود بن محفوظ..
(http://www.mahfoouz.com/play-829.html)
___________________________

#abou゚moaz
شاركه على جوجل بلس

عن الكاتب العلوم الشرعية

    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيس بوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق